بات قرار الرئيس سعد الحريري محسوماً بالعزوف عن الترشح للانتخابات النيابية المقبلة. هذا ما أبلغه لِمَن زارهم والتقاهم منذ عودته الى بيروت حتى مساء الأمس، على أن يعلن موقفه النهائي في مؤتمر صحافي غداً في بيت الوسط.
لم ينجح رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط بثني الحريري عن قراره، ولم تنفع “نداءات” ومطالعات وتحذيرات أعضاء كتلته وحزبه من التداعيات الكارثية، بتبديل توجهاته الجديدة.. فالرجل اتخذ قراره قبل العودة، وحركة المشاورات واللقاءات لا تعدو كونها “مسرحية” سياسية – إعلامية، للوقوف على خاطر “الرفاق” الحزبيين واعطاء العلم والخبر لحلفاء الخط التقليديين، وكذلك رسم الاخراج المناسب للقرار المفصلي في حياته السياسية والوطنية.
وإن كان الحريري يُخفي تأجيل اعلان خياره حتى الاثنين لانتظار آخر المساعي الفرنسية مع السعودية في ربع الساعة الاخير، في محاولة لاقناعها بإعادة تعويم “الحريرية السياسية” المتهالكة وضخ الدم في عروقها لعدم وجود البديل في الوقت الراهن، وتداعيات خطر الفراغ على مستقبل الطائفة السنية في لبنان، بيد أن الهدف من التريث كان أيضاً لتأمين الغطاء السياسي والطائفي لقرار الحريري من دار الافتاء ونادي رؤساء الحكومات السابقين على اعتبار أنه يتكفل أمر كتلته وتياره بـ”المونة”.
والمعلومات المسربة من “بيت الوسط” تُفيد بأن “اتفاقاً قيد التبلور يقضي بأن يحافظ زملاء الحريري في النادي على زعامته السياسية مقابل أن لا يترشح الرئيس نجيب ميقاتي ويبقى رئيساً للحكومة ما بعد الانتخابات حتى تحين الظروف لعودة الحريري، فيما يتسلم الرئيس فؤاد السنيورة الذي سيعزف ايضاً، ادارة الملف الانتخابي وتحديد اللوائح التي سيدعمها النادي، فيما اكتفى الرئيس تمام سلام الذي فضل الانسحاب مبكراً بحفظ موقع عائلته التاريخية في الطائفة”.
والمؤكد أن قرار “الشيخ” بالإنكفاء سبقه الى بيروت قبل انطلاقته من “الإمارة” التي كانت على تواصل مع “المملكة” في لحظات المساعي الاخيرة، إلا أن الأطراف الداخلية لم تخرج من الصدمة السياسية، وقد بدأت للتوّ بعملية التقييم واعادة الحسابات وتحليل أسباب موقف الحريري وأبعاده على تحالفاتها الانتخابية وموقعها السياسي، بعد خسارة الحليف الأساسي لها على الساحة السنية.
مصادر مطلعة على لقاءات الحريري خلال اليومين الماضيين، كشفت لـ”أحوال” أن “الحريري حسم موقفه بالإنكفاء عن مشهد الانتخابات، وكذلك تياره السياسي، لكنه سيترك الحرية لنواب ومسؤولي التيار بخوض الاستحقاق منفردين ضمن لوائح مختلفة لا باسم المستقبل”.
وأشارت المصادر الى أن “جنبلاط حاول إقناع الحريري بالعودة عن خياره واستشراف الأسباب التي دفعته لذلك، لكن الحريري تكتّم عن الأسباب مُكتفيًا باستعراض الحقبة السياسية الماضية وصعوبات المرحلة المقبلة على التيار وعلى البلد وعليه شخصياً، مؤكدًا لحليفه جنبلاط أن خطوته ليست آخر الدنيا ولن تُخرجه من الحياة السياسية اللبنانية، بل سيبقى الى جانب شعبه وتياره وحلفائه، لكن الظروف فرضت خطوة الى الوراء لاعادة الانطلاق مجدداً في المرحلة المقبلة.
لكن الخروج الانتخابي يعني الكثير في حسابات وتوازنات اللعبة الداخلية، وفي غالب الأحيان تمهد للخروج التدريجي من السلطة ومن المشهد السياسي برمته، فالسلطة هي “أوكسيجين” أغلب الأحزاب اللبنانية، لا سيما الشريكة في اتفاق الطائف والفراغ لا يعيش. فهل استطاع الرئيس رفيق الحريري على سبيل المثال لا الحصر أن يتبوأ السلطة وزعامة الطائفة السنية في لبنان من دون اكتساح المقاعد السنية في أغلب الدوائر الانتخابية، ومن دون أن يحظى بدعم سعودي عربي أميركي غربي؟
ثمة من يقول إن الحريري سيعود أقوى من الأمس ولن يؤثر قراره على زعامته التي لا بديل لها حالياً، لكن المؤكد أن التداعيات السلبية لن تقتصر على حضوره في المجلس النيابي، بل ستتعداه مجلس الوزراء والادارة، وصولاً الى زعامته السياسية والطائفية. إذا ما أضفنا تخلي السعودية ودول الخليج وعلاقته المقطوعة مع الأميركيين واستبدال الفرنسيين ميقاتي به.. ما يدعو للتساؤل: هل نعيش نهاية “الحريرية السياسية” بقرار خارجي وما الانسحاب الانتخابي إلا أحد تجلياتها؟ ومن البديل؟ هل القوى المتطرفة أم قوى المجتمع المدني أم الشخصيات التي نمتّ على “ضفاف الحريرية” أم “سُنة المقاومة”؟.
ووفق الحساب الانتخابي والسياسي، فإن أول المتضررين من اعتكاف الحريري الانتخابي، هو الحزب الاشتراكي الذي يرتبط بتحالف تاريخي مع الحريري في أكثر من مقعد، الشوف وبيروت والبقاع الغربي. وتفضل مصادر نيابية في “الاشتراكي” انتظار اجتماعه الاخير مع رؤساء الحكومات السابقين وكلمة الحريري الاثنين للبناء على الشيء مقتضاه. ولا تُخفي المصادر لموقعنا حالة الارباك، لكنها تشدد على أن الاخطر هو التداعيات على المستويين السني والوطني.
ولفتت أوساط مخضرمة في الساحة السنية لـ “أحوال” الى أن “قرار الحريري سيُرتب تداعيات كبيرة على الشارع السني في لبنان، وسيتركه بلا زعامة أو بزعامة هشّة ضائعة، والخطر الاكبر أن هذا التشرذم والانقسام والتضعضع، يترافق مع تخلي المرجعية الاقليمية التاريخية للسنّة “السعودية”، ما سيترك مضاعفات على وضعية وموقعية الطائفة ومستقبلها، وبالتالي على اتفاق الطائف.
وترى الاوساط أن “قرار الحريري قد يؤدي الى تأجيل الانتخابات النيابية بطلب من مرجعيات الطائفة السنية السياسية والدينية، للحؤول دون المزيد من الاستنزاف والتفريط بمكتسباتها وموقعها الريادي كطائفة أساسية ومؤسسة في الكيان اللبناني ودستوره، في ظل صعوبة تأمين البديل الذي سيملأ الفراغ”.
إلا أن ما يخفف الشعور بالمظلومية لدى الشارع السني، أن الحريري اختار قراره بملئ ارادته ولم يُفرض عليه داخلياً، بل جاء بقرار خارجي بحسب ما يقول مطلعون على الوضع السياسي لـ”احوال”، وهو أبعد من الحدود وأكبر من الحريري والقوى الداخلية، ويتصل بالحسابات السعودية والمخطط الخارجي المرسوم للبنان.
ويردد البعض في الكواليس السياسية أن قرار السعودية يخفي في طياته تمهيد للعودة الى لبنان من البوابة السورية، بعد نضوج التسوية الاقليمية التي لا تستوعب بقاء الحريري وربما آخرين في المشهد الداخلي!.
محمد حمية